الزبير مهداد
الزبير مهداد

عرفت القارة الإفريقية في العصور المتأخرة عدة حركات إصلاحية، ولعل أهمها حركة الشيخ عثمان بن محمد بن فودي، التي ظهرت في بلاد الهوسا والفولاني، وأسفرت عن قيام دولة إسلامية عاشت قرابة قرن من الزمن، يمتد ما بين بدايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكان لها الأثر القوي في توحيد المنطقة، ونشر الإسلام فيها، والنهوض بأحوالها الاجتماعية والسياسية. وامتد تأثيرها إلى مناطق واسعة من القارة الإفريقية.
الشيخ عثمان دان فودي رائد الإصلاح
ولد الشيخ عثمان بن محمد عام 1168 للهجرة (ديسمبر1754) في قرية «تغل» بمنطقة «غوبير» في بلاد الهوسا (يعقوب، ص183)، جنوب دولة النيجر حاليا، في عائلة اشتهرت بمكانتها الدينية، ولقب فودي يعني الفقيه في لغة الفولانيين سكان المنطقة. بعد تضلعه العلمي الديني، بدأ الشيخ عثمان بن فودي نشاطه في الدعوة إلى الله، في مجتمع لا يدين بالتوحيد، ويحكمه أمراء يتطاحنون على السلطة وتوسيع نفوذهم المجالي والسياسي، هذا الوضع الانقسامي لم يسمح أبدا بتوحيد المنطقة في مواجهة التحديات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي كانت تواجهها، فظلت على حالة كبيرة من التخلف والتشرذم. 
  ارتكز عثمان بن فودي في أسلوبه الدعوي على أمرين مهمَّيْن: 
الأول  إبراز مكانة المرأة وقيمتها في المجتمع، ومكانتها في العمل التوعوي والدعوي. فاهتم بذلك، فكان يخصص للنساء وقتا لتعليمهن وإرشادهن، وألف رسالة في الحث على تعليم المرأة،  الأمر الذي كان يعد تحديا للأفكار التقليدية السائدة التي كانت تبخس مكانة المرأة ودورها في المجتمع (أحمد، ص452).
الثاني الاهتمام بالعمل الثقافي وتشجيعه على الإنتاج الأدبي، مع احترامه للغات والثقافات المحلية، فكان يؤلف المنظومات  الشعرية  الحاملة لمضامين أخلاقية وإرشادية، بالأسلوب الشعبي البسيط، باللغة العربية واللغات المحلية، القريب من فهوم الناس وأذواقهم (الملاح، ص214).
فكان للحركة الجديدة دور هام في نشر وازدهار تعليم النساء في إقليم الهوسا وجهات واسعة في الجنوب الغربي للنيجر وشرق بنين وغرب الكاميرون.
  توفي الشيخ رحمه الله عام 1817 (الملاح، ص218)،  مخلفًا رصيدًا دعويًا، وخلفه ابنه في مواصلة السير على نهجه، وتحقيق مشروعه في إقامة دولته. كما خلف الشيخ عثمان بنات متعلمات صالحات، منهن نانا أسماء.
نانا أسماء
 نَانَا أسماء (1792-1894)، عالمة وفقيهة وشاعرة ومربية، حفظت القرآن وتعلمت القراءة والكتابة ودرست العلوم الاسلامية من تجويد وأصول الفقه على يد والدها الشيخ عثمان مباشرة، وبمطالعة الكتب التي كان يمتلكها والدها في مكتبته الكبيرة.
كان لها أثر هام في النشاط الدعوى، والنهوض بالثقافة العربية، وتعليم النساء، وتمكينهن، وإدماجهن في التنمية المحلية، إلى جانب دورها السياسي الداعم للحكومة المحلية بقيادة أخيها الذي خلف والدهما بعد وفاته.
نشاطها الدعوي
 لم تشذ نانا أسماء عن المسار الثقافي الدعوي لعائلتها، فكانت داعية إسلامية نجيبة، أسهمت في نشر العربية في إفريقيا بتعليمها النساء، وكان ذلك يخدم الدعوة الإسلامية أيضا، فاللغة العربية هي وعاء الثقافة الإسلامية بامتياز، وعامل مهم لتيسير نشر الإسلام والتعريف به وفهمه واستيعابه. فألفت عدة رسائل في الدعوة، أهمها «تنبيه العاملين» و«خصائص سور القرآن الكريم»، أما في كتابها «تنبيه العاملين» فقد شرحت فيه أهمية تعليم المرأة، واستعرضت حججا وبراهين تؤكد على جواز تعليم النساء، وتبرز أهميته في مجتمع متخلف، لم يكن يرحب بذلك، هذه الأفكار والآراء التي عدت متقدمة في عصرها، لفت لها انتباه الدارسين والباحثين من مواطنيها الأفارقة ومن غيرهم.
 وفي عملها الدعوي كانت متمسكة بالسنة، لا تفتأ تبرز أهميتها الدينية، داعية إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بسنته في أقواله وأفعاله وأخلاقه، وإخلاص النية في ذلك. والصدق في امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
تعليمها النساء
  شرعت نانا أسماء في تعليم النساء في حداثة سنها بعد نفي والدها، لمواصلة رسالته التي بدأها، وكانت تمحو أمية النساء الأبجدية بتلقينهن المبادئ الأولية للقراءة والكتابة، والعمليات الحسابية البسيطة، مع اهتمام بارز بالتربية الروحية على منهج الطريقة الصوفية القادرية. وتشجيع النساء وتدربهن على إتقان مهارات حياتية، تكون مصدر دخل مالي يحسن أوضاعهن الاقتصادية، ويساعدهن على إعالة أنفسهن بعد وفاة المعيل، خاصة وأن المنطقة كانت تعاني حروبا أهلية أودت بالعديد من الرجال، وخلفت آلاف الأيتام والأرامل. فلقي نشاطها قبولا حسنا وانتشر صيتها في المنطقة فلمع نجمها، وأصبحت حلقاتها مقصدا لمئات النساء يلتمسن لديها ما يفيدهن من معرفة ومهارات وتربية. 
ولما كثر عددهن، أنشأت عام 1830 شبكة من المعلمات تتألف من أنجب تلميذاتها، إلى جانب بعض تلميذات والدها الشيخ، حملن لقب «جاجيس» وأشركتهن في خطة تعليم النساء، فتوسعت الشبكة، وأصبح تعليم وتربية النساء متاحا حتى في منازلهن للواتي لا يستطعن مغادرتها، مراعاة لظروفهن، وقد تحقق ذلك بفضل وجود المتطوعات للقيام بالمهمة، يشتغلن بحماس ونكران الذات (الجمعاري، ص153). 
  هؤلاء المعلمات «جاجيس» كن يحظين بمكانة بارزة وهامة في الدولة الجديدة. وتميزن بلباس خاص، وقور محتشم، وكن يغطين رؤوسهن بقلنسوات تقليدية، مثل تلك التي يضعها رجال الدين المحليين، إلا أن قلنسوة المعلمات تكون ملفوفة بعمامة حمراء، فأصبحن من رموز الدولة الجديدة ونظامها التربوي التعليمي، وكان المنهاج التعليمي التربوي أساسه  كتابات نانا أسماء وآثار شيوخ الطريقة القادرية، في تعليم وتوجيه وتربية جماعات من المتعلمات يطلق عليهن اسم «يان تارو» يؤلفن نوعًا من الإخوانيات الصوفية. 
وما أكسب هذه التجربة قيمة كبرى هو أن نانا أسماء وجماعتها أسست تعليمها على منهجية تراعي الظروف الثقافية والاقتصادية والبيئية للمجتمع المحلي، فكانت تعتمد اللغات المحلية في تلقين المعارف الأساسية إلى جانب اللغة العربية، وتعليمهن المبادئ الأولية في الدين (الجمعاري، ص151). وكان لهذه الخطة دور هام في النهوض بوضعية المرأة في المنطقة، وتحريرها من القيود الاجتماعية التقليدية البالية، فأصبحت الفاعلات الاجتماعيات والمدرسات والطالبات قادرات على السفر في كل أرجاء الدولة، دون الحاجة إلى كفيل أو وصي يفرض عليهن ولايته، كما أن إدماج التربية الروحية في المنهاج التعليمي، كان له أثر فعال جدا في إقبال النساء من مختلف الأعمار على هذه الحلقات التعليمية التربوية، وفي السمو بأخلاق النساء وترسيخ ثقتهن في أنفسهن، وفي قدراتهن ومكانتهن الاجتماعية.
عنايتها باللغة العربية
ورثت نانا أسماء وأختها مريم عن أبيهما حب العربية، وكانت مكتبتهم المنزلية زاخرة بكتب الثقافة العربية، نهلت منها أسماء عشق الأدب العربي، وامتلكت ناصية اللغة العربية قراءة وكتابة وفهما، إلى جانب تمكنها من اللغات المحلية الهوسا والفلاني. 
 وألفت نانا أسماء عددا من الكتب بالعربية، في الثقافة الدينية وتدبير شؤون الحكم، كما نظمت القصائد في أغراض شتى كالرثاء والمديح، وفي ذكر فضائل الصحابيات، وعالمات بلاد السودان، وصنفت الأراجيز التعليمية في موضوع قواعد اللغة العربية والتجويد. هذه النصوص كان لها أثر هام في تأسيس الدراسات العربية الإسلامية في إفريقيا، وعرفت باللغة العربية وأسهمت في نشرها (الجمعاري، ص154). ما هيأ أهم شروط ترسيخ الإسلام في المنطقة، وتيسير فهمه وقراءة نصوصه المرجعية والمتون الدينية والفقهية بلغتها الأصلية.
 وأورد لها كتاب: «حركة اللغة العربية وآدابها في نيجيريا» عددًا من القصائد والمقطوعات الشعرية، ولها قصائد ومقطوعات شعرية ضمن كتاب: «الثقافة العربية في نيجيريا».
نشاطها الأدبي
تعد في الأدب العربي النيجيري كالخنساء في الأدب العربي القديم، وقد كان لها هي وأختها تأثير ثقافي كبير في أوساط النيجيريين خاصة أنها بنت أكبر شيخ ومجاهد في نيجيريا، وعقيلة وزير من وزراء الدولة الإسلامية في صكتو. كما كتبت الشعر باللهجات المحلية كالهوساوية والفولانية، إلى جانب الفصحى.
 يطغى على موضوعاتها الشعرية المدح والتسبيح والإجلال، ومناجاة الله سبحانه وتعالى، والنزعة إلى التوحيد والتوكل في حالات الحزن أو السرور والتزهد، حيث يغلب عليه الطابع الصوفي بصفة عامة (عثمان، ص140).
من أشهر قصائدها في الرثاء: قصيدة «إلى الله أشكو» التي ترثي فيها صديقتها وزوجة أخيها، عائشة بنت عمر الكموي، تقول فيها: 
إلى الله أشكـو مـن صُنـوف الـبـلابــلِ    غدت فـي سُويْداءٍ لقـلـبـــيَ داخلِ
لِفقْدِ شـيـوخٍ قـادةِ الـديـن ســادةٍ    وأخـواتنـا أخدانِ خـيرٍ ونـــائل
 فالقصيدة ترسم ملامح التحول الذي عرفته أدوار النساء في ظل الحركة الإصلاحية الإسلامية الإفريقية الجديدة، فالفقيدة  عائشة كما وصفتها القصيدة أنموذج للنساء الإفريقيات المسلمات، الفاعلات اجتماعيًا، فهي مع تمسكها بعباداتها ومناسكها، لا تكف عن تلاوة القرآن، وترديد الأوراد والأذكار، إلى جانب أدوار اجتماعية ثمينة، منها مناصرة المظلومين، وتحمل المسؤوليات، والتضامن الاجتماعي من كفالة الأيتام ودعم الأرامل، وترؤس الأحياء السكنية والتواصل الاجتماعي.
 كما تشير القصيدة إلى أمر هام، وهو التربية على المحبة التي نشأت عليها نانا أسماء وأسرتها، هذه التربية تعد من دعائم ومكونات التربية الروحية الصوفية التي ترسخها في النفس بشكل قوي فلا تزول ولا تنمحي.
أما في المديح،  فمن أشهر ما نظمته، قصيدة لطيفة استقبلت بها الشيخ الحاج أحمد بن محمد الشنقيطي الموريتاني، لما حل بمدينة صكتو، في طريقه إلى الحجاز، ضمن ركب الحاج لأداء مناسك الحج (بشر، ص117):
أكرِمْ بجَهبذِنا الكريمِ الوافدِ    عن أرضِه نحو المدينةِ قاصدِ
الأعمال الأخرى
لها عدد من المقالات التي نشرتها لها صحف عصرها منها: «تنبيه العاملين»، و»في خصائص سور القرآن الكريم».
 وقد تلقى العلم عليها عدد من علماء المنطقة، ثقفتهم ثقافة عربية، ونشاطها في التدريس، وحلقاتها العلمية، وكتاباتها، ورسائلها، جعلها تحوز- إلى جانب والدها وعمها - فضل تأسيس الدراسات العربية الإسلامية في هذه المنطقة من إفريقيا، كما خلدت في بعض آثارها ذكر عدد من المثقفات الإفريقيات، اللواتي ما كن يعرفن لولا آثارها.
نهاية رحلة
عاشت نانا أسماء حياتها رافعة لواء الدعوة إلى الخير، ونشر الأمل، والنضال في سبيل قضايا المرأة، والنهوض بأحوالها، وتعليمها وتمكينها وإشراكها في التنمية المحلية، فدان لها بالفضل آلاف النساء، فنالت عن جدارة واستحقاق لقب «سَرَوْنِيَرْمَاتَ» أي ملكة النساء (الجمعاري، ص155).
 توفيت رحمها الله عام 1864، عن عمر يناهز 72 سنة، مخلفة آثارا أدبية وثقافية، وأعمالا مجيدة وذكرا حسنا في المجتمع المحلي وسائر غرب إفريقيا، وشهد جنازتها الآلاف من الرجال والنساء، وفدوا من عدة جهات وقبائل، شيعوها إلى مثواها الأخير، فواروها التراب، وما زالوا يتوارثون ويتناقلون الإرث والأفكار التي خلفتها، ويتدارسون سيرتها وأعمالها. ويطلقون اسمها على مدارس ومنظمات إسلامية، تخليدا لذكراها، وتعريفا بها لدى الأجيال الجديدة.
المراجع:
أحمد، مهدي رزق الله: حركة التجارة والإسلام والتعليم في غربي إفريقيا، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 1997.
بشر مالمي ساعي: فن المديح لدى الشاعرة نانا أسماء بنت عثمان فودي، مجلة مالم، مجلة الدراسات اللغوية، العدد 11، صفر 1436 ديسمبر2014.
الجمعاري، هوذا إسحاق، وعثمان الحاج عمر: جهود نَانَا أسماء، بنت الشيخ عثمان بن محمد بن فودي في نشر الثقافة العربية والإسلامية في خلافة صُكُتُو بنيجيريا، المجلة الدولية لدراسات غرب آسيا، المجلد9 العدد 1 (2017) الجامعة الوطنية الماليزية. 
عثمان، برايما باري: جدور الحضارة الإسلامية في الغرب الإفريقي، القاهرة، دار الأمين، 2000.
الملاح، أكرم جميل: تاريخ الإسلام في إفريقيا، دار الفكر، عمان 2014.
يعقوب، علي: الشيخ عثمان بن فودي ومنهجه في التربية الروحية لأتباعه، مجلة العلماء الأفارقة، العدد1 السنة1، مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، الرباط، أكتوبر 2019.